ما هي بعض الحقائق النفسية الأكثر روعة؟
البكاء، الغرور، التفوه بالشتائم، قضم الأظافر ، تنكيش الأنف، الصراخ بِطِفلك… عزيزي القارئ، لا تقاطعني! فأنا لم أنتهِ من العدّ بعد...
الإيثار، التبرير، الاحترام، التسامح، الصبر… وتطول القائمة. نعم! كل ما ذكرته ينتمي في علم النفس لقائمة واحدة طويلة من وسائل الدفاع النفسية. ستسألني: ولكن كيف تصنف متناقضات في نفس المجموعة؟ هذا ما سأخبرك عنه في مقالي هذا.
إن حقيقة أن دماغنا يستخدم هذه الوسائل الدفاعية برمّتها ليحافظ على نفسه من التداعي مسألة تثير الدهشة. لكني لست هنا لأثير دهشتك فحسب، بل لتعزيز مقدرتك على إدراك آلية عمل دماغك، ومن ثم فستصبح أكثر قدرة على تفسير تصرفاتك اللاواعية، بل واستنتاج الآليات التي تعوَّد مخك على استخدامها عند رزوحه تحت ضغط نفسي ما -سواء تلك الناضجة منها وغير الناضجة.
الوعي بالذات هو الخطوة الأهم نحو السلوك الأكثر نضجًا.
ما هي وسائل الدفاع النفسية؟
إنها مجموعة من السلوكيات التي يتبعها دماغنا -أو بالأحرى- التي يعتمد عليها دماغنا كي يحافظ على تماسك شخصيتنا. عمل دماغنا على تطوير هذه الآليات منذ الصغر واستمر بذلك مع مرور الزمن، بحيث كان يجرب وآليات جديدة كل مرة فيضيف مرةً وسيلة جديدة، ويعدل أحيانًا ثانيةً، ويتخلى أحيانًا أخرى عن غيرها. وبهذا يمكننا تقسيم وسائل الدفاع النفسي إلى أربع مجموعات رئيسة:
وسائل غير ناضجة: وهي الوسائل التي طورها دماغنا في الصغر واستمر مداومًا على استخدامها حتى بعد أن كبرنا، أو ربما هي وسائل يكون تطبيقها غير مقبول اجتماعيًا، إذ قد تعود بالضرر على صاحبها أو على الآخرين. من أبرز الأمثلة على هذه الوسائل:
- التنفيس: وهو يعني التعبير بالأفعال عن رغبات اللاوعي دون وجود ترابط منطقي بين طريقة التعبير والرغبة المنشودة، كالبكاء أو رمي الأشياء عند الشعور بالحزن أو الغضب
- الإسقاط: فالبخيل يتهم الناس بالبخل والكذاب يتهم الناس بالكذب، وهو بذلك يبرر التصرف السيئ لنفسه بأنه ليس الوحيد الذي يقوم به.
- العدوانية السلبية: وأبرز مثالٍ على ذلك هو التسويف. فبالتسويف نؤجل عملًا ما، أي لا نقوم بشيء، بمعنى أننا نكون سلبيين، ونؤدي بذلك إلى إيذاء أنفسنا ولربما إلى إيذاء الآخرين أحيانًا.
- الجسدنة: وهنا تتحول المشاعر والأفكار إلى أعراض جسدية، كالمغص أو ألم الرأس.
وسائل دفاع مرضية: وهي النوع الثاني من وسائل الدفاع النفسية. وهنا تصل محاولات الدماغ للدفاع عن استقراره إلى حد يصفه الطب النفسي بالمرضي. ومن الأمثلة المضروبة في هذه الحالة:
- عقدة التفوق أو الاستعلاء: أو الغرور والتكبر بالتعبير الأبسط.
- عقدة النقص أو الدونية: وكثيرًا ما يكون التحكم الاستبدادي محاولة للتعويض هذا الشعور. (ويمكننا أن نلاحظ هنا أن الدماغ يحاول الدفاع عن نفسه أمام إحدى وسائل دفاعه الذاتية، والمثل الشعبي جاء يكحلها فأعماها).
- الإنكار: ويعني رفض تقبل الواقع أو الحقيقة المسببة للتوتر بالكلية ونفي وجودها.
- التحويل: أو الهيستيريا، وهنا يظهر الصراع النفسي في صورة جسدية شديدة كالعمى أو الشلل أو الخرس.
وسائل دفاع عصابية: وهي ذات فوائد قصيرة الأمد ولكن في ذات الوقت قد تؤدي لمشاكل على المدى الطويل. منها:
- الإزاحة: وهنا يتم تحويل الرغبات العدوانية إلى مكان أكثر قبولًا، بحيث تُفصل المشاعر عن مغزاها الحقيقي وتوجه إلى أفراد أقل خطورة، كأن تقوم الأم الغاضبة من زوجها بالصراخ في أطفالها.
- العقلنة: وهو شكل من عزل النفس والتركيز على أجزاء عقلانية متعلقة بالموقف من أجل أن يبعد العقل نفسه عن القلق المصاحب لهذ الموقف، أي يتم في هذه الحالة مقاربة الموضوع المقلق عبر فصل المشاعر عن الأفكار والتركيز على الأجزاء العقلانية. أنا شخصيًا أجد نفسي كثيرًا ما أستخدم هذا الأسلوب في التغلب على الضغوط النفسية، لكنه قد يؤدي بصاحبه إلى برودة المشاعر على المدى الطويل.
- الانعزال: مثل الضابط الذي يحكي تفاصيل الجريمة دون ان يتأثر.
- النكوص: النكوص يعني القهقرة أو العودة إلى الوراء، وهنا نمارس عادة طفولية دون وعي، مثل قضم الأظافر (والتي تطورت من سلوك مصّ الإصبع في الطفولة) أو نكش الأنف.
واسمحوا لي أن أسهب هنا في الشرح قليلًا، فالنكوص بمعنى آخر هو العودة إلى مرحلة عمرية سابقة، وممارسة السلوك المرتبط بتلك المرحلة بشكل غير واعٍ، وبالمثال يتضح المقال. سأحدثكم أكثر عن قصة قضم الأظافر، وسأشرح بالتفصيل الممعن كيف تتشكل هذه الوسيلة الدفاعية بدءًا من منعكس طبيعي يمتلكه كل طفل؛ تبدأ القصة من منعكس الرضاعة، وهذا المنعكس التلقائي الغريزي (المسبق البرمجة في دماغنا) يحدث ما إن يشعر الطفل بثدي أمه يلامس شفتيه. يمكن لهذا المنعكس أن يتفعل بتقريب إصبع أو حلمة رضّاعة أو حتى لو قربت خدك من فم الطفل سيبدأ بحركات مص الحليب.
النقطة الثانية هي تشكل الرابط الدماغي اللاواعي بين تفعيل منعكس الرضاعة والشعور بالراحة النفسية والأمان والسعادة الناجمة عن الشبع، كل ذلك قرب صدر الأم تزامنًا مع الرضاعة. في مرحلة تالية وحين يكبر الطفل قليلاً، يبدأ بالتعود على رضاعة إصبعه (الإبهام في الأغلب)، لأنه بذلك يفعّل الشعور بالراحة المرتبط بمنعكس الرضاعة. يكبر الطفل بعد ذلك وتنمو له الأسنان وتصبح عادة رضاعة الإصبع غير ملائمة بفعل التعارض الحاصل بين وجود الأسنان ومص الإصبع. كما أن منعكس الرضاعة يخفت تدريجيًا ليختفي تمامًا في سن السنتين.
رغم اختفاء منعكس الرضاعة إلا أن الرابط الدماغي ما زال موجودًا، ومع نمو أسنان جديدة وتزايد شهوة العض وحكّ اللثة لدى الطفل يتحول المص إلى القضم، وتبدأ بوادر تحول وسيلة الدفاع إلى شكلها النهائي. (من المص إلى القضم).يعتاد الطفل بعد ذلك على قضم أظافره عند تعرضه للتوتر.
تختفي هذه العادة مع ازدياد العمر وإدراك العادات المقبولة اجتماعيًا من الأخرى المستهجنة -وقضم الأظافر مستهجن بلا شك. تحت التوتر والضغط النفسي يجد الدماغ مهربه في النكوص والعودة إلى سلوك ارتبط تنفيذه بالشعور بالأمان والراحة النفسية، فيبدأ الشخص بقضم أظافره ناكصًا نحو سنوات عمره الأولى، دون أن يتعمد فعل ذلك
الانسحاب: هي الابتعاد بالكلية عن مصدر القلق، وقد ينتهي بصاحبه إلى العزلة الاجتماعية الكلية.
التبرير: أي محاولة إيجاد مبررات سواءً كانت منطقية أو غير منطقية. مثل تفسير قرقعة نسمعها في منتصف الليل خارج المنزل على أنها قطة تنكش في المهملات.
التكوين العكسي: وهو من أكثر وسائل الدفاع النفسية إثارة للدهشة، وفيه يتم قلب الرغبات غير الواعية والتي يراها الشخص على أنها رغبات محرمة وغير مقبولة إلى عكسها. تكون هذه الحيلة النفسية غالبًا ردة فعل مبالغ فيها، فالتكوين العكسي يعمل على قمع وكبت الدافع المثير للقلق وبذلك يستريح صاحبه مؤقتًا من التوتر المرتبط به. فالإسراف في القسم قد يكون دليلاً على الكذب، والإسراف في الزهد والتقوى قد يخفي وراءه ميولًا جنسية أو عدوانية، والإسراف في اللطف قد يخفي رغبة في العنف أو التخلّي.
وسائل دفاع ناضجة: وهي الصنف الأخير من وسائل الدفاع النفسية، وتعتبر هذه الدفاعات ناضجة على الرغم من أنها قد تكون تطورت عن دفاعات غير ناضجة في مراحل النمو أو التطور النفسي، واستخدام هذه الآليات يعزز الإحساس بالمتعة والتحكم بالذات. لقد ساعدت هذه الآليات على إدارة الصراعات النفسية بصورة جيدة، كما يعتبر الأشخاص الذين يستخدمون هذه الآليات أشخاصًا أقوياء وفضلاء، إذ يمكنك عزيزي القارئ أن تلاحظ أننا نسميها جملة بمكارم الأخلاق، فتعلمها ليس بالأمر السهل، والوصول إليها يتطلب من عقلنا جهدًا كبيرًا، حيث يشير استعمالها إلى النضج النفسي، ولهذا فقد دُعيت بالحيل العقلية الناضجة.
الأمثلة عليها كثيرة، ومنها: الاحترام الصبر الحدس والتخطيط: أي التفكير والتحضّر المسبق للأحداث المستقبلية.الشجاعةالتواضع التقبل: حيث يوافق الإنسان ويتقبل واقعه ويدرك الحالة والموقف الذي يمر به دون اللجوء إلى إنكاره أو تشويهه أو الانسحاب منه، وخاصة عندما يكون الموقف غير محبوب وفي نفس الوقت غير قابل للتغيير.الامتنان التسامح الإيثار: هو تفضيل الغير على النفس، وتقديم مصلحتهِ على المصلحة الذاتية. العفو التسامي: بتحويل الأفكار السلبية إلى أفعال إيجابية، كممارسة الرياضة للتخلص من الرغبات العنيفة.الفكاهة: وهو التعبير عن الأفكار أو المشاعر ذات الطبيعة المؤلمة بصورة مزاحية تعطي البهجة للآخرين، على سبيل المثال: النقد الإيجابي عبر الكوميديا الساخرة.
حسنًا أيها القارئ المثابر، شكرًا لك! وشكرًا جزيلاً لمن طرح هذا السؤال بالطبع. سأكتفي بهذا، وأنا واثق أن بإمكانك الآن إكمال القوائم بنفسك… لقد استمتعتُ بكتابة هذا المقال حقًا، أتمنى أن تكون قد استمتعت أنت أيضًا بقراءته.
نهايةً، هذا وصف مبسط لأحد شواطئ علم النفس، ولك الإبحار بسفينتك -أو دعني أقل غواصتك - الخاصة، ستجد بكل تأكيد في هذا المحيط حقائق جمّة أخرى تزدان بالجمال والروعة… رحلة موفقة!