recent
أخبار ساخنة

فلسفة البيولوجيا .. كيف بدأت رحلتها وأصبحت اهتماما أكاديميا رائجا

لا تزال فلسفة البيولوجيا حديثة نسبيا، لكنها بدأت بالفعل رحلتها وأصبحت اهتماما أكاديميا رائجا، بل شهدت تفرعا وتخصصا بداخلها




1. بروز الثورة البيولوجية


في سبعينيات القرن الماضي، وبعد اكتشاف التركيب الدقيق للحمض النووي ADN، وبدء عصر الجينات، وتدخل الرياضيات والحوسبة لتعزيز التطور الحاصل في فهمنا لعلوم المخ والأعصاب، كانت البيولوجيا محط أنظار الجميع في الوسط العلمي، واستشرفت إمكانات واعدة في ما هو نظري وتطبيقي، هنا انزاحت فلسفة العلم قليلا عن عالم الفيزياء وظهرت الحاجة لفلسفة تقوم بنقد وتفسير المنهج العلمي في مجال البيولوجيا، كعلم يسأل أسئلة أكثر تنوعا واختلافا. فإلى أي مدى ساهمت هذه التطورات في الميدان البيولوجي في زعزعة النظام الفلسفي السائد؟

إذا كان القرن 20 يُعرف بأنه قرن الفيزياء ،فإن القرن 21 يعرف بأنه قرن الثورة البيولوجية. المهدي المنجرة 

يعكس نمو الاهتمام الفلسفي بعلم الأحياء خلال الثلاثين عامًا الماضية، الأهمية المتزايدة للعلوم البيولوجية في نفس الفترة. يوجد الآن مؤلفات مكثفة حول العديد من الموضوعات البيولوجية المختلفة ، وسيكون من المستحيل تلخيص مجموعة العمل هذه في هذا المقال (ننصحك بهذا المقال).


فلسفة البيولوجيا تعتبرفرعا ثانويا لفلسفة العلم، يختص في عدة قضايا لم تكن فلسفة العلم في العموم لتهتم بها، خاصة التساؤلات الأخلاقية، وتلك المرتبطة بمركزية الكائن البشري، وأصل الحياة.


يمكن أيضًا تقسيم فلسفة البيولوجيا إلى عدة مجالات فرعية حسب النظرية البيولوجية التي تهتم بها. لأن علم الأحياء هو مجموعة متنوعة من التخصصات، تتراوح من العلوم التاريخية مثل علم الحفريات إلى العلوم الهندسية مثل التكنولوجيا الحيوية، كما توجد قضايا فلسفية مختلفة في كل مجال.


2. ما قبل فلسفة البيولوجيا


ظهور علم الأحياء

ظهر مصطلح علم الأحياء (البيولوجيا)  للمرة الأولى عام 1736 عندما استخدمه كارلوس لينيوس في أحد كتبه، ثم دخل هذا المُصطلح حيِّز الاستخدام الحديث في أطروحةٍ من تأليف العالم الألماني غوتفريد راينولد تريفيرانوس، الذي تحدث عن أشكال الحياة ومظاهرها المُختلفة، والظروف والقوانين التي تحدث بموجبها الظواهر البيولوجية، والأسباب التي أثرت فيها، وسماها باسم علم الأحياء.


نظرية داروين

بدأ العصر الحديث بالنسبة لعلم الأحياء عام 1859م عندما ألف تشارلز داروين كتابه أصل الأنواع origine des espèces، وقدّم فيه نظرية التطور والإرتقاء، وشرح فيه مبدأ الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعي la sélection naturelle، ومؤكدا على أن كل أنواع الحياة الحاضرة هي عبارة عن فروع شجرة عائلية ارتقائية عظيمة لها أصل مشترك واحد.

حتى وقت قريب، استحوذت نظرية التطور على نصيب الأسد من الاهتمام الفلسفي.
حتى وقت قريب، استحوذت نظرية التطور على نصيب الأسد من الاهتمام الفلسفي.



النظرية الخلوية وعلم الوراثة

في عام 1838م كانت استنتاجات العالم شلايدن بخصوص كون النباتات تتشكل من نسيج من الخلايا، هي اللبنة الأساس لوضع النظرية الخلوية، والتي تنص على ما يلي :

  • جميع الكائنات الحية تتكون من خلية واحدة أو أكثر من خلية.
  • الخلية هي الوحدة الوظيفية الأساسية عند الكائنات الحية.
  • تنتج الخلايا الجديدة من الخلايا الموجودة مسبقا.

وفي أواخر القرن التاسع عشر تطورت المجاهر مما أتاح دراسة مكونات الخلية ذاتها (أي دراسة عضيات الخلية)، وخاصة نواة الخلية ومكوناتها وفي طليعتها الصبغيات les chromosomes ، وفي عام 1865، وُلدت الدراسة العلمية لعلم الوراثة على يد مندل، التي تهدف إلى شرح كيفية توزيع هذه الصفات الوراثية على الأجيال الجديدة، واتضح آنذاك أن: 

كل كائن ينقل إلى نسله مجموعة من الوحدات الوراثية المسماة 'الجينات genes '، وكل جين يحدد صفة منفردة، لذا فإن المظهر الإجمالي للكائن يكون محكوما بطبيعة الجينات.




باختصار، وفر علم الوراثة فوائد عظيمة، ففي مجال الزراعة أمكن إنتاج أنواع ممتازة من النباتات والحيوانات الأليفة ذات القيمة الاقتصادية العالية، وفي مجال الطب أدى التعرف على دور الجينات في كثير من الأمراض إلى استحداث وسائل الوقاية من هذه الأمراض وعلاجها.


ثم سرعان ماظهر علم تحسين النسل والذي لا يهدف فقط دراسة التطور المفترض في المخزون البشري، بل يتعداه إلى تحسين الصفات الجسمية والفكرية للأجيال المقبلة.


ولقد أدى النجاح العظيم في تقدم علم الوراثة إلى جعله يعتلي قمة العلوم البيولوجية في النصف الأول من القرن العشرين، ومنذ عام 1944 تم اكتشاف ADN والذي لعب دورا كبيرا في تطوير هذا العلم والمضي به حثيثا إلى الأمام.


3. إشكالية التجريب وظهور فلسفة البيولوجيا


الفحص المتأني لـ فلسفة البيولوجيا يكشف عن محاولات تأسيسها، شأنها شأن المجالات العلمية الحديثة المعروفة. و نشر العالم البيولوجي وودجر والفيلسوف مورتن بيكنر عامَ 1950 أعمالا مهمة في فلسفة البيولوجيا (Woodger 1952; Beckner 1959) لكن هذه الأعمال لم تؤد إلى ظهور أدبيات فلسفية لاحقة.

والتشجيع الذي ظهر من علماء بيولوجيا مشهورين مثل ماير وف. ج ايالا (Ayala 1976; Mayr 1982) كان عاملا في بزوغ المجال الجديد. وأول علامات ظهور فلسفة البيولوجيا كجزء رئيسي في فلسفة العلم هو نشر كتاب ديفيد هول (فلسفة العلوم البيولوجية) في سلسلة يردس هول الشهيرة للأسس الفلسفية (Hull 1974). ومن هذا الوقت نما هذا المجال نمواً سريعا.

لقد كان أول نقاش في فلسفة البيولوجبا، استخدام العلوم البيولوجية لاستكشاف الموضوع العام لفلسفة العلوم. حيث قام كينيث إف شافنر بتطبيق النموذج التجريبي المنطقي لدراسة العلاقة بين علم الوراثة الكلاسيكي وعلم الوراثة المندلي والجينات الجزيئية الجديدة (Schaffner 1967؛ Schaffner 1967b؛ Schaffner 1969).


وجادل ديفيد هال بأن الدرس المستفاد من هذه المحاولة هو أن علم الوراثة المندلية غير قابل للاختزال في علم الوراثة الجزيئي (Hull 1974؛ Hull 1975). عزز هذا النقاش شبه الإجماع في السبعينيات والثمانينيات على أن العلوم الخاصة مستقلة عن العلوم الأساسية (Fodor 1974؛ Kitcher 1984).


فلسفة البيولوجيا .. لماذا يحتاج علم الأحياء إلى فلسفة؟
من أبرز الصعوبات التي تعيق التجريب في ميدان البيولوجيا هي كثرة الاحتمالات 


لا يمكن الخوض في كل الموضوعات التي تناقشها فلسفة البيولوجيا دفعة واحدة، لكن يجدر بنا الإشارة لبعض الإشكالات الهامة التي تجعل من علم الأحياء يحتاج إلى فلسفة وكيانا مستقلا عن باقي فروع فلسفة العلم.


يرى بعض الباحثين أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجرببي على الظواهر الحية بنفس الكيفية التي يتم فيها تطبيقه على المادة غير الحية، إذ تعترض الباحث المجرب جملة من الصعوبات و العوائق، بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس ذاته وهو المادة الحية، و بعضها الاخر يتعلق بتطبيق خطوات المنهج التجريبي عليها.


الكائن الحي كموضوع للتجربة


يؤكد الباحثون، أن المادة الحية مقارنة بالمادة غير الحية  شديدة التعقيد نظرا للخصائص التي تميزها؛ فالكائنات الحية تتكاثر للمحافظة على النوع. ثم إن المحافظة على توازن الجسم الحي يكون عن طريق التغذية، كما يمر الكائن الحي بسلسلة من المراحل خلال نموه، فتكون كل مرحلة هي نتيجة للمرحلة السابقة وسبب للمرحلة اللاحقة. هذا، وتعتبر المادة الحية مادة جامدة أضيفت لها صفة الحياة من خلال الوظيفة التي تؤديها، فالكائن الحي يقوم بجملة من الوظائف تقوم بها جملة من الاعضاء، مع تخصص كل عضو بالوظيفة التي تؤديها واذا اختل العضو تعطلت الوظيفة ولا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها. وتتميز الكائنات الحية ايضا بالوحدة العضوية التي تعني ان الجزء تابع للكل و لا يمكن أن يقوم بوظيفته الا في اطار هذا الكل، و سبب ذلك يعود الى أن جميع الكائنات الحية باستثناء الفيروسات تتكون من خلايا.


صعوبة الملاحظة العلمية


بالإضافة الى الصعوبات المتعلقة بطبيعة الموضوع، هناك صعوبات تتعلق بالمنهج التجريبي بخطواته المعروفة، وأولها هو عائق الملاحظة؛ فمن شروط الملاحظة العلمية الدقة والشمولية ومتابعة الظاهرة في جميع ظروفها ومراحلها، لكن ذلك يبدو صعبا ومتعذرا في المادة الحية، فلأنها حية فإنه لا يمكن ملاحظة العضوية ككل نظرا لتشابك وتعقيد وتداخل وتكامل وترابط الاجزاء العضوية الحية فيما بينها، مما يحول دون ملاحظتها ملاحظة علمية، فالملاحظة تكون ناقصة غير شاملة مما يفقدها صفة العلمية.


عائق التجريب على الكائنات الحية


ودائما على مستوى المنهج، هناك عائق التجريب الذي يطرح مشاكل كبيرة؛ فمن المشكلات التي تعترض العالم البيولوجي مشكلة الفرق بين الوسطين الطبيعي والاصطناعي؛ فالكائن الحي في المختبر ليس كما هو في حالته الطبيعية، إذ أن تغير المحيط من وسط طبيعي الى شروط اصطناعية يشوه الكائن الحي و يخلق اضطرابا في العضوية و يفقد التوازن .


ومعلوم ان التجريب يقتضي تكرار الظاهرة في المختبر وقت ما شاء للتأكد من صحة الملاحظات والفرضيات، أما التجريب على المادة الحية فيتعذر تكرار التجربة لأن تكرارها لا يؤدي دائما الى نفس النتيجة، مثال ذلك ان حقن فأر بـ 1cm3 من المصل لا يؤثر فيه في المرة الاولى، و في الثانية قد يصاب بصدمة عضوية، و الثالثة تؤدي الى موته، مما يعني أن نفس الاسباب لا تؤدي الى نفس النتائج في البيولوجيا، و هو ما يلزم عنه عدم امكانية تطبيق مبدأ الحتمية بصورة صارمة في البيولوجيا، علما ان التجريب و تكراره يستند الى هذا المبدأ.


عائق التصنيف و التعميم


إذا كانت الظواهر الجامدة سهلة التصنيف بحيث يمكن التمييز فيها بين ما هو فلكي أو فيزيائي أو جيولوجي وبين أصناف الظواهر داخل كل صنف، فإن التصنيف في المادة الحية يشكل عقبة نظرا لخصوصيات كل كائن حي التي ينفرد بها عن غيره، ومن ثـمّ فإن كل تصنيف يقضي على الفردية ويشوّه طبيعة الموضوع مما يؤثر سلبا على نتائج البحث.


وهذا بدوره يحول دون تعميم النتائج على جميع افراد الجنس الواحد، بحيث ان الكائن الحي لا يكون هو هو مع الانواع الاخرى من الكائنات، ويعود ذلك الى الفردية التي يتمتع بها الكائن الحي .


وخلافا لما سبق، يعتقد بعض العلماء أنه يمكن اخضاع المادة الحية الى المنهج التجريبي، فالمادة الحية كالجمادات من حيث المكونات، وعليه يمكن تفسيرها بالقوانين الفيزيائية- الكميائية أي يمكن دراستها بنفس الكيفية التي ندرس بها المادة الجامدة.

ويعود الفضل في ادخال المنهج التجريبي في البيولوجيا الى العالم الفيزيولوجي ( كلود بيرنار ) متجاوزا بذلك العوائق المنهجية التي صادفت المادة الحية في تطبيقها للمنهج العلمي.


بسبب خصوصيتها الشديدة، تحتاج دراسة الظاهرة الحية إلى منهجية مختلفة في التقصّي، ويستتبع ذلك وجود فلسفة مستقلة لفهم وتفسير ونقد تلك المنهجية والمكتشفات الناتجة عنها وأثرها على الفروع المعرفية الأخرى، لا تزال فلسفة البيولوجيا حديثة نسبيا، لكنها بدأت بالفعل رحلتها وأصبحت اهتماما أكاديميا رائجا، بل شهدت تفرعا وتخصصا بداخلها.

لقد ترك كل علم من العلوم للفلسفة القضايا التي تتوقع تلك العلوم وجود إجابة عنها، لكنها لا تمتلكها، وبالمثل تركت البيولوجيا الأسئلة التي تتناولها الفلسفة وفي الحقيقة الأسئلة التي تركتها البيولوجيا للفلسفة من الصعب تجنبها؛ لما لها من أهمية كبيرة تتخطى البيولوجيا، وتتخطى الفلسفة لهذا الشأن، ويعد هذا أحد الأسباب التي جعلت فلسفة البيولوجيا أكثر المجالات الفرعية للفلسفة حيوية، ظهوراً وإثارة ونشاطاً، أضف إلى ذلك أن مثل هذه الأسئلة هي الأكثر صلة بالاهتمامات البشرية بشكل لا مثيل له، فقد أصبح كثيرون مثلاً يبحثون في البيولوجيا عن استبصار يوضح ماهية الطبيعة البشرية.




المصادر

google-playkhamsatmostaqltradent